بعد أن غسلها مطر "الوسمي" الموسمي، خلال اليومين الماضيين، لبست العاصمة السعودية أبهى حللها استعداداً لعودة الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، بعد تماثل سموه للشفاء عقب رحلة علاجية تكللت بالنجاح.
توزعت الأعلام السعودية في الطرق الرئيسة بمدينة الرياض، إلى جانب العبارات الترحيبية الكبيرة، التي غطت معظم الجسور واللوحات الإعلانية، تهنئة بالشفاء وسلامة وصول (سلطان الخير) بعد غياب عن أرض الوطن تجاوز العام بأيام، كما يصل في معية الأمير سلطان شقيقه الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، الذي لازم أخيه معظم فترة رحلته العلاجية.
الجدير بالذكر أن ولي العهد السعودي خضع لعملية ناجحة لإزالة كيس معوي في محافظة جدة في العام 2005م، تماثل بعدها للشفاء، ثم تابع سموه إجراء الفحوصات الطبية الدورية بشكل اعتيادي، وبعد أن قام سموه بأنشطة سياسية كبيرة وواسعة، في مطلع العام 2008م، كان آخرها زيارة العاصمة القطرية الدوحة، لإذابة الجليد الذي غطى العلاقات بين البلدين لأكثر من ستة أعوام، عقب ذلك قام بزيارة إلى المغرب.
وفي مساء الأحد 28 أبريل 2008م، وصل الأمير سلطان إلى جنيف في إطار زيارة استشفاء روتينية كانت مبرمجة منذ عدة أشهر، للقيام ببعض الفحوصات الطبية، استمرت لمدة يومين تقريباً، وكانت نتائج الفحوصات الطبية سليمة ومطمئنة، ليغادر ولي العهد السعودي مستشفى جونيلي بجنيف في الأول من مايو 2008م.
وبعد أن تمتع الأمير سلطان بإجازة خاصة، وعودته إلى أرض الوطن منتصف العام 2008م، غادر نائب رئيس مجلس الوزراء جدة في 23 نوفمبر 2008م، متوجهاً إلى أمريكا لإجراء بعض الفحوصات الطبية، وبعد مرور أكثر من شهر تقريباً، عاد الأمير سلطان إلى المغرب لقضاء فترة نقاهة، بعد النتائج المطمئنة للفحوصات الطبية اللازمة التي أجراها في نيويورك الأمريكية، واستقر ولي العهد السعودي في مدينة أغادير المغربية حتى منتصف فبراير 2008م، حيث غادرها مرة أخرى إلى أمريكا لمواصلة العلاج.
سلطان الخير ..
"سلطان الخير"، بهذا اللقب اختصر السعوديون مشاعرهم تجاه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، ولا شك في أن سموه كان سعيداً بهذا اللقب، الذي صدر عن القلوب قبل الألسن، لأنه ـ وبكل بساطة ـ أحب شعبه فأحبوه، ولأنه أيضاً، ذو شخصية عربية تجاوزت إسهاماتها السياسية والإنسانية حدود المملكة لتصل إلى العالم، وبخاصة العربي والإسلامي، حيث استطاع سموه أن يكون محط أنظار واهتمام العالم وقياداته، ومحور اهتمام وسائل الإعلام المختلفة، فهو السياسي المحنك، ورجل الدولة من الطراز الرفيع، والمتحدث الجيد وسريع البديهة، والقريب إلى القلب، والإنسان الكبير، فاستحقت أفعاله أن يُطلق عليها "المؤسسة الإنسانية الكبرى".
عند ذكر اسم الأمير سلطان بن عبد العزيز، يتبادر لذهن كل سعودي معاني القوة والحماية والدفاع والمنعة، هذه المعاني جعلت السعوديين يتوجهون، بعد الله سبحانه، إلى الأمير سلطان وزير الدفاع، بُعيد احتلال الكويت والتهديد الوشيك من قبل نظام صدام حسين وأثناء حرب الخليج، فكانت ابتسامته الدائمة والعفوية تمحو كل خوف يجد طريقه إلى المجتمع السعودي، وتبدد كل الشائعات في ذلك الوقت.
إن (أبا خالد)، كنية الأمير سلطان، سعودي تميّز بتاريخه وإنجازاته المتواصلة، بصفته واحداً من أشهر الرموز الوطنية، وقيادياً كرّس عمره للبناء والتنمية في ميادين شتى، تعلم السياسة والكياسة والحلم، وأصول الإدارة وصنع القرار ومتابعة شؤون المواطنين وأمور الدولة، نهلها من بحر الملك المؤسس عبد العزيز، رحمه الله، واكتسبها من أنهار ممن عاصر من الملوك بعده، حيث استفاد من حكمتهم وحنكتهم، لرسم مسار خاص به في شؤون الحكم، فقد تعرّف إلى العالم بمختلف محطاته السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية، واطلع على تجارب الشعوب.
بزغ فجر "سلطان الخير" في مدينة الرياض يوم الخميس 13 رجب 1346هـ الموافق للخامس من شهر يناير 1928م، وهو الابن الخامس عشر في سلسلة أبناء الملك عبد العزيز من الذكور، نشأ في كنف والده المؤسس، ولقي عناية فائقة منه، وتربى تربية صالحة، وتعلم القرآن الكريم والعلوم العربية على يد العلماء، ثم واصل تعليمه، ودرس على أيدي كبار العلماء آنذاك في قصر والده في مجالات عدة، منها العلوم الشرعية والثقافية والعلوم الدبلوماسية، كما أن تعليمه كان مدعماً بالقراءات المكثفة في مجالات المعرفة، والزيارات المتعددة لأقطار العالم، فكان لهذه التنشئة الدينية والعلمية أثرها الكبير في أخلاقه وتصرفاته، انعـكس ذلك في حياته العامة وعلاقـته بالناس، وإدارته وتسييره أمور الوظائف العديدة التي أُسندت إليه.
كان لملازمته لوالده أثر كبير في إكسابه الخبرة العملية والحنكة السياسية، فمارس العمل مبكراً، وكان مداوماً وذا صلة بالسياسة الخارجية والداخلية للمملكة، مبدياً منذ صغره ذكاءً فذاً وحضوراً ديناميكياً قوياً فاعلاً، وهو، إلى جانب شخصيته الجريئة، يتمتع بفعالية روحية تليق بدور بلاده البارز إقليمياً وعالمياً.
دفعت "كاريزما" الأمير سلطان القوية به أميراً على منطقة الرياض، عندما عينه والده في 22 فبراير 1947م، وله من العمر تسعة عشر عاماً، فتصدى للمسؤولية وكان على قدر الثقة، وساهم مع والده في إقامة نظام إداري متين، مبني على العدالة الاجتماعية وتطبيق شريعة الإسلام، وحقق كثيراً من الإنجازات، وساهم في بداية نهضة وتطور منطقة الرياض، هذا النجاح الذي حققه الأمير سلطان في تدبير شؤون العاصمة السعودية، أهله لدخول تشكيلة أول مجلس للوزراء في المملكة عام 1373هـ (1953م)، وزيراً للزراعة، فسطر ملحمة أخرى من النجاح في عملية توطين البدو، ومساعدتهم في إقامة مزارع حديثة، وبعد مرور عامين من تولي حقيبة الزراعة، عين الأمير سلطان وزيراً للمواصلات في العام 1375هـ (1955م)، ليسهم في إدخال شبكات المواصلات الحديثة البرية، والاتصالات السلكية واللاسلكية.
قضى الأمير سلطان سبع سنين لربط المملكة وفق بنية تحتية مؤسسة على أرقى المعايير العالمية، وفي العام 1382هـ (1962م)، عيّن وزيراً للدفاع والطيران، الحقيبة التي حملها قرابة 46 عاماً، رغم ثقلها وأهميتها، وفي العام نفسه صدر الأمر الملكي بتعيين الأمير سلطان نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء، وبعد وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، في 28 جمادى الآخرة 1426هـ (الثالث من أغسطس 2005م) بويـع الأمـير سلطـان ولـياً للـعهد، إلى جانـب وزارة الدفاع والطـيران.
عُرف عن الأمير سلطان دعمه الرئيس والمستمر للأعمال الخيرية والإنسانية، فكان مدرسة في القيادة والنبل والإنجاز، شخصية تميزت بالريادة والخدمة والتضحية، وسيرته الطويلة تحتاج إلى مشروع توثيق مستمر.. إنسان استثاره مشهد في عمق صحراء النيجر الإفريقية البعيدة، عندما شاهد عجوزاً تحفر بيوت النمل لتقتات على ما يجمعه النمل، هذا المشهد دفعه ليجند المؤسسات الخيرية للوصول لها، وخصص سموه لجنة تستمد أهميتها من حملها لاسمه، لتكتسب بذلك دعماً مادياً ومعنوياً، ما يمكن لتلك اللجنة القيام بمهام تختلف عن أنشطة الهيئات الأخرى، فتميزت اللجنة بالقيام بمهمات الإغاثة العاجلة لمناطق الكوارث، وتعمل في أربع دول أفريقية، هي النيجر ومالي وتشاد وأثيوبيا.
وسبق خير (السلطان) داخل المملكة قبل خارجها، حيث تجسد اهتمام سموه في هذا الجانب في إنشاء مؤسسة سلطان بن عبد العزيز الخيرية، التي كان من أبرز منشآتها مدينة الأمير سلطان بن عبد العزيز للخدمات الإنسانية، وبرنامج سلطان بن عبد العزيز للاتصالات الطبية والتعليمية (ميديونت)، ومشروع مؤسسة سلطان بن عبد العزيز الخيرية للإسكان الخيري، ويهدف إلى إنشاء مجمعات لإسكان الأسر السعودية الفقيرة، في مناطق متعددة من المملكة.
واستكمالاً لمواقفه الإنسانية، فقد أولى سموه رعاية خاصة للطفولة والأمومة، من خلال دعم الحملات التثقيفية الصحية، ودعم الجمعيات الطبية والخيرية النسائية، واهتمامه الكبير بذوي الاحتياجات الخاصة؛ من خلال دعمه للجمعيات الخيرية والإنسانية ومؤسسات البحث العلمي.
كان (سلطان الخير) صاحب الإسهامات الجليلة في التنمية السعودية المتوازنة، وبناء قدرات القوات المسلحة السعودية وتعزيزها، وكان صاحب المبادرات المتجددة في التربية والتعليم والصحة والمياه والثقافة الموسوعية وحفظ القرآن، مثال هذه المبادرات "جائزة الأمير سلطان الدولية لحفظ القرآن الكريم"، التي تعد واحدة من الجوائز التي تحفل بها المملكة لتشجيع حفظ كتاب الله، ورأس سموه مجلس إدارة "الموسوعة العربية العالمية"، وأنفق عليها من أمواله الخاصة خدمة للعالمين العربي والإسلامي، مساهمة منه في نشر العلم والمعرفة، كما رعى سموه "برنامج الأمير سلطان بن عبد العزيز للعناية بالمساجد"، الذي أخذ بعد ذلك مسمى "البرنامج الوطني للعناية بالمساجد العتيقة"، انطلاقاً من إيمانه وقناعته، حفظه الله، بأهمية إعمار المساجد، وحرصه على حفظ العمران الأصيل لمدن المملكة.
تميز الأمير سلطان بالحكمة والنظرة الاستراتيجية الثاقبة في التخطيط الاقتصادي والإداري، وفي توطين التقنية والمبتكرات، إلى جانب قدرته على التوظيف الأمثل للموارد البشرية، ساعده ذلك على استقطاب الكفاءات التي عززت الدور التنموي للقوات المسلحة، وجعلها رديفاً أساسياً في التنمية الوطنية، محققاً بذلك رؤيته في أهمية الترابط الوثيق بين متطلبات الأمن وضرورات التنمية، عدا عن حرصه الكبير على بناء منظومة عسكرية على درجة عالية من الاحتراف والمهنية.
يتجلى اهتمام سمو ولي العهد بقطاع التعليم، في ريادته لمجال التعليم العالي الأهلي في المملكة، وكان داعماً رئيساً لمسيرة التعليم العالي الأهلي، بتبني ودعم كثير من المؤسسات التعليمية، التي تعني بتقديم العلوم للشباب من أجل تزويدهم بعلوم العصر، التي تؤهلهم لمواكبة التقدم العلمي في كل المستويات، وجسد سموه هذا الاهتمام برعايته ودعمه السخي لجامعة الأمير سلطان الأهلية في مدينة الرياض، ولم يغفل عن تعليم المرأة، حيث تم إنشاء قسم للطالبات في جامعة الأمير سلطان لمواجهة التحديات التي يتطلبها المجتمع المحلي والإقليمي لليد النسائية العاملة، كما قدم تبرعاً سخياً لمشروع جامعة الفيصل بمبلغ 20 مليون ريال، بعد وضعه حجر الأساس للجامعة عام 1427هـ (2006)، كما أنشأ سموه مركز الأمير سلطان بن عبد العزيز للعلوم والتقنية (سايتك) في مدينة الخبر، الذي يعد أحد أهم المراكز السعودية التي تطرح منهجية التعليم بالترفيه وبالتجربة وبالمشاهدة، من خلال أحدث التجهيزات.
فيما نالت (السياحة) نصيبها من خير (السلطان)، فكان سموه رئيساً لمجلس إدارة الهيئة العليا للسياحة سابقاً عند إنشائها، حيث تحققت العديد من الإنجازات في مجال السياحة، وتأتي في مقدمتها الاستراتيجية العامة لتنمية صناعة السياحة وتطويرها، كما وجه سموه تعليمات برسم الخطط وتقديم الدراسات العلمية والاستراتيجيات، من أجل تنمية القطاع السياحي، على إثر ذلك قام في المملكة عدد من المراكز والكليات المتخصصة التي حظيت باهتمام سموه ودعمه، مثل كلية الأمير سلطان لعلوم السياحة والفندقة، لتكون مركزاً لتأهيل الموارد البشرية للعمل في مجال السياحة والفندقة، من خلال تقديم تعليم متميز يواكب مستوى الدراسة بالمعاهد المماثلة في الدول المتقدمة، كما تم إنشاء مركز الأمير سلطان بن عبد العزيز للبحوث والدراسات البيئية والسياحية؛ ليقوم بإنتاج البحوث والدراسات والكتب ونشرها في مختلف مجالات العلوم البيئية والسياحية.
وعمّ اهتمام (سلطان الخير) البيئة، فنال سموه لقب (رجل البيئة العربي الأول)، كما اختارته وكالة "ونتس" الدولية ضمن عشرة رجال يعملون من أجل الحفاظ على بيئة كوكب الأرض وإعمارها، نتيجة قيادته لتجربة فريدة في مجال المحافظة على البيئة، ورعاية الأنشطة التي تحافظ على الحياة الفطرية، وما قام به سموه من جهود من خلال مؤسسات مختصة، أسهم في تبؤ المملكة مكان الريادة في هذا المجال الحيوي، كما أسس سموه جائزة للمياه أطلق عليها "جائزة الأمير سلطان بن عبد العزيز العالمية للمياه"، وتتصف الجائزة بأنها عالمية، وعلمية، وتقديرية ودورية، تُمنح كل عامين، وتهدف إلى تقدير جهود العلماء، والمبدعين، والمؤسسات العلمية والتطبيقية في مجال المياه.
ترأس الأمير سلطان ولفترة طويلة اجتماعات اللجنة العليا لسياسة التعليم، واللجنة العليا للإصلاح الإداري، ومجلس القوى العامة، والهيئة العليا للدعوة الإسلامية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالمملكة، ومجلس إدارة الخطوط الجوية العربية السعودية، والهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها، واللجنة الوزارية للبيئة، ومجلس إدارة المؤسسة العامة للصناعات الحربية، واللجنة العليا للتوازن الاقتصادي، ومؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية، والهيئة العامة للغذاء والدواء، كما شغل منصب نائب رئيس المجلس الاقتصادي الأعلى بالمملكة، ورئيس مجلس إدارة الموسوعة العربية العالمية.
قام الأمير سلطان بزيارة عدة دول عربية وعالمية، وكان دائم الملازمة لأخيه الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، في جميع رحلاته الخاصة والدولية، وحضر العديد من المؤتمرات والاجتماعات الإقليمية والدولية، وترأس الوفد السعودي في اجتماع هيئة الأمم المتحدة عام 1405هـ (1985م)، كما رأس وفد المملكة المشارك في احتفال الأمم المتحدة بعيدها الخمسين في أكتوبر 1994م.
ويحمل الأمير سلطان وشاح الملك عبد العزيز الطبقة الأولى، الذي يعتبر أعلى وسام في المملكة، كما تلقى العديد من أوسمة الاستحقاق من الدرجة الأولى من عدة دول عربية وغربية، وأفضل تلك الأوسمة هي حب الشعب السعودي لولي عهدهم، هذا الحب المستمر الذي تشكل لقباً لا يحمله سواه، هو
(سلطان الخير)